كيف تكشف لنا الصلاة عن حقيقة
الدين؟ قراءة في كتاب فريد الأنصاري
مقدمة
لطالما كانت الصلاة أعظم الشعائر الإسلامية وأهم أركان الدين بعد الشهادتين، لكن هل هي مجرد طقس تعبدي يؤدى خمس مرات في اليوم؟ أم أنها تحمل في طياتها حقيقة الدين كله؟ في كتابه "الدين هو الصلاة"، يقدّم الدكتور فريد الأنصاري تفسيرًا عميقًا للصلاة بوصفها المفتاح لفهم جوهر الإسلام، وليس مجرد فريضة روتينية.
يرى الأنصاري أن حقيقة الدين تتجلى في الصلاة، وأن المسلم لا يمكنه استيعاب المعنى العميق للعبودية لله إلا من خلال أداء الصلاة بقلب حاضر وخشوع صادق. في هذا المقال، نستعرض كيف تكشف لنا الصلاة عن حقيقة الدين، كما يشرحها فريد الأنصاري في كتابه.
الصلاة: تجسيد للعلاقة بين العبد وربه
الصلاة ليست مجرد حركات بدنية، بل هي أعمق تعبير عن ارتباط العبد بخالقه. فهي الركن الذي يرافق المسلم طوال حياته، منذ أول يوم يولد فيه حين يؤذَّن في أذنه، وحتى لحظة وفاته حيث يُصلى عليه.
يؤكد الأنصاري أن الدين كله صلاة، بمعنى أن كل ما في الإسلام من توحيد وعبودية وطاعة واستقامة يتجسد في الصلاة. فمن خلال الوقوف بين يدي الله في خشوع، وإظهار التذلل والسجود له وحده، يحقق الإنسان الغاية الكبرى من وجوده، وهي العبودية الخالصة لله.
كيف تعكس الصلاة أركان الإسلام؟
يرى الأنصاري أن الصلاة تجسد جميع أركان الإسلام الخمسة:
- الشهادتان (التوحيد والإيمان بالله ورسوله): تبدأ الصلاة بالتكبير، وهو إعلان للتوحيد وإفراد الله بالعبادة. كما أن قراءة الفاتحة تتضمن إعلان العبودية التامة لله.
- الصيام (التربية على الصبر والإخلاص): يتدرب المصلي على الصبر والانضباط، كما في الصيام. فهو يترك الدنيا خمس مرات في اليوم ليقف بين يدي ربه.
- الزكاة (العطاء والإنفاق في سبيل الله): الصلاة تغرس في الإنسان روح البذل والإنفاق، حيث يدعو المسلم في التشهد بالرحمة لجميع المسلمين، مما يعزز روح العطاء.
- الحج (التوجه إلى الله والوقوف بين يديه): تشترك الصلاة مع الحج في فكرة التوجه إلى الكعبة، وفي مفهوم الوقوف بين يدي الله في رهبة وخشوع.
وهكذا، فإن الصلاة ليست مجرد ركن من أركان الإسلام، بل هي انعكاس لكل أركانه في صورة عملية يومية.
الصلاة كمدرسة للتقوى والخشوع
يركّز الأنصاري على أن الصلاة هي المدرسة الكبرى التي يتعلم منها الإنسان التقوى والخشوع. فمن خلالها، يدرك المسلم معنى الإخلاص لله، حيث يؤديها بعيدًا عن أعين الناس، ولا يعلم مدى صدقه فيها إلا الله.
يقول الله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ" (المؤمنون: 1-2)، مما يدل على أن خشوع الصلاة هو معيار نجاح الإيمان. فالإنسان قد يصلي، ولكن بدون خشوع، وبالتالي لا تؤثر صلاته في قلبه وسلوكه.
وهنا يوضح الأنصاري أن المشكلة الكبرى في عالمنا الإسلامي ليست في أداء الصلاة من حيث الشكل، بل في افتقاد الروح والخشوع فيها، مما يجعل الكثيرين لا يشعرون بتأثيرها في حياتهم.
الصلاة كميزان للأخلاق والسلوك
يذهب الأنصاري إلى أن الصلاة ليست مجرد وسيلة روحية، بل هي أيضًا أداة لإصلاح النفس والأخلاق. فالصلاة الحقيقية يجب أن تنعكس على سلوك الإنسان وأخلاقه، وإلا فإنها تصبح مجرد عادة فارغة من المعنى.
يشير الكاتب إلى قول الله تعالى: "إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ" (العنكبوت: 45)، ويشرح أن الصلاة التي لا تغيّر من سلوك الإنسان هي صلاة تحتاج إلى إعادة نظر في حقيقتها.
إذا كانت الصلاة لا تمنع المسلم من الكذب أو الغش أو الظلم، فإن ذلك يدل على أنها لم تؤدِّ وظيفتها الحقيقية في إصلاح القلب وتنقية الروح. ولهذا، يؤكد الأنصاري أن الصلاة يجب أن تكون مدرسة أخلاقية، تعلّم الإنسان الصدق، والتواضع، والإحسان إلى الآخرين.
لماذا الصلاة هي أول ما يُحاسب عليه العبد؟
في حديث صحيح، قال النبي ﷺ: "أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله".
يشرح الأنصاري أن الصلاة هي الميزان الحقيقي للدين، فمن كانت صلاته صحيحة وخاشعة، فإن ذلك دليل على صحة إيمانه وسلامة قلبه. أما من كانت صلاته شكلية أو مهملة، فإن ذلك مؤشر على ضعف علاقته بالله، مما ينعكس على سائر أعماله.
الصلاة بين العادة والعبادة: دعوة لإعادة إحيائها في القلوب
يختم الأنصاري كتابه بدعوة قوية إلى إحياء معنى الصلاة في حياة المسلمين. حيث يرى أن كثيرًا من الناس يصلّون، لكنهم لا يشعرون بحقيقتها، لأنهم يؤدونها كعادة وليس كعبادة.
ولتجنب هذا، يقترح الأنصاري عدة خطوات لإعادة الروح إلى الصلاة:
- تدبر معاني الفاتحة والسور القصيرة، وعدم قراءتها بسرعة دون تفكر.
- محاولة استشعار الوقوف بين يدي الله، وكأن المسلم يخاطب ربه مباشرة.
- إطالة السجود والدعاء فيه، لأن السجود هو أقرب ما يكون العبد إلى ربه.
- الحرص على صلاة الجماعة، لأن ذلك يعزز الشعور بالعبودية الجماعية لله.
- عدم تأخير الصلاة عن وقتها، لأن ذلك يُفقدها أثرها التربوي.
خاتمة
في كتاب "الدين هو الصلاة"، يقدّم فريد الأنصاري رؤية عميقة للصلاة بوصفها المفتاح لفهم حقيقة الدين. فالصلاة ليست مجرد طقوس، بل هي روح الإسلام، ومصدر التقوى، وأداة لإصلاح النفس والمجتمع.
لذلك، فإن المسلم الذي يريد أن يفهم حقيقة دينه، عليه أن يبدأ بتصحيح صلاته، وإحيائها بروح الخشوع والتدبر. فبقدر ما تكون الصلاة حية في القلب، يكون الدين حيًا في حياة الإنسان.